تم نشر القصة على موقع الجمهورية هنا
أطوف في مياه الفرات، يحملني الموج رغم أنني لا أجيد السباحة. أشعر بسكينةٍ مع كلّ شهيق، وكأنني ولدتُ من جديد. حنّان، «الشبّيح»، يبتعد عني، يخبرني أنه سيذهب إلى هناك، حيث أشجار النخيل. أرى أشجار النخيل بعيدةً، يحجبها عني رذاذ المياه. أشعر بالسكينة مرّة أخرى، ويبتعد حنّان باتجاه النخيل، فيما يحملني الموج باتجاه الجرف.
أستيقظُ من النوم، أتلمّسُ حنّان إلى جانبي فلا أجده. «حااا!!»، وأخفضُ صوتي فالكلّ نيام. أتلمّسُ مكان حنّان الفارغ، ثم أمشي ببطء خشية الدعس على بطن سجين آخر. أمشي على رؤوس أصابعي التي تتلمّس مكاناً تستطيع الوقوف عليه بين بطون المساجين. بوصلتي باتجاه الحمّامات هي سعال مرضى السكري وكبار السّن، أتعقبُ خطواتي كارهاً إيقاظ أحدهم في زيارته المسموحة خارج عالم السجن، إلى عالم الأحلام. هناك الآن من يضمُّ ابنه الذي لم يره، وآخر، كشفيع السلو، ينام مع زوجته التي لم ينم معها سوى خمسة أيام قبل إلقاء القبض عليه.
كلُّ في عالمه
أَصِلُ الحمّامات، وأجدُ حنّان يقرأ القرآن على ضوء الحمّام، الذي بالكاد نرى منه أنفسنا، خاصةً ليلاً، لا يقرأ كلمات القرآن بل يخمّنها.
– حنّان يا شريكي، طمّني عنك؟!
– حلمت أنهم ذبحوني مو؟ وقعدت تدوّر علي.
– لا والله لا، حلمت إنو عمّ نسبح.
لكي أنسيه ما حدث، كونه من الأشخاص الذين يحللون كلّ كلمة تقال لهم في جلسات التحقيق، وكل رأي من آراء المساجين حول قضيته، طلبتُ منه أن يسمع مني سورة المائدة ويتأكد من حفظي لها قبل أن يشغّل أمير المهجع الإنارة، فقد انتهيتُ من حفظها بعد صلاة العشاء. أحاولُ تحدّي من أنا في سجنهم، هم يقولون إنني مرتد، وأنا أبحثُ في أصول الردّة، هل بالفعل كلّ مرتدٍ يُقتل؟ لو تمّ قتل كل مرتد لما وجدنا الأشاعرة والكلاميين والصوفيين الآن، بعد مرور مئة عامٍ على سقوط الخلافة! هل أصدّق كلامهم، أم كلام رسول الله عندما قال: «من أخذ بالسبع الأول فهو حَبر»؟
أخبرني المحقق أنني، برسمي للسيّدة العذراء، سأدخلُ النار. ورسول الله يخبرني أن الله توّاب، وأنّي في حال أنجزت ما ذكره في الحديث سأكون حَبراً، أي من زمرة العلماء.
الطفل الذي في داخلي يسألني مَن نصدّق؟ بطبيعة الحال، نصدّق كلام الأقوى..
يكرّر حنّان سؤاله لي، ويستحلفني أن أخبره بما حلمت به. أعيد له الحلم، وأفصّل صور الحلم صورةً صورة. ما زال هناك بعض الوقت قبل أن يُشعل الموقّت الإنارة، وأنا نعسان أريد العودة لكي أنام قليلاً قبل أذان الفجر. يطلب حنّان أن يعود معي، لقد تخوّف من حلمي، وخشي أن يبقى وحيداً يفسّر الحلم. نعود ممسكين أيادي بعضنا، نتلمّس برؤوس أصابعنا بطون المساجين، فيما يمازح حنّان السجناء النائمين. هو كثير التخمين، يتخيّل الكلام بدل أن يقرأه، وكثير «اللّكاسة»، أي الشغب.
أشارَ حنّان إلى أمين الفرقة الحزبيّة في مدينة بزاعة، وقال لي: «شوف الحجّي يا إعلامي». ثم يوجّه حديثه لأمين الفرقة: «روح! شايفك تضحك؟ أبصر شو عم تشوف بالمنام. خلص يا رجّال، الحز الوِلد يحسّون علينا، هيك عم تقلك مرتك. وأنت ترد عليها أنو خلّي الويلاد يحسّون، يجوز باجر الدواعش يذبحوني وأموت بالحسرة».
نصلُ إلى المكان المخصص لنا، ونجلس القرفصاء، ونمدّ أرجلنا كلّما اقترب النعاس منّا. أقولُ لحنّان: «تخيّل لو كل سجين فوق رأسه شاشة بلازما، ونشاهد ما يحلم كل السجناء»، فيسألني: «وكيف نميّز هذا الصوت عن ذلك؟».
أتمدد وأحاول النوم، سرعة النوم تتناسب مع الموضوع الذي أفكّر فيه. وعندما غفوت، ضرب حنّان قدمي بقدمه:
– خليفة، نمت؟
– يهمك الموضوع يعني؟
– لا تنام، خليك قاعد، خائف أحلم كيف يذبحوني مثل الرجل الذي ذبحوه في قريتنا. رجل سمين مسك السيف بيده وضرب الرجل ضربة واحدة فمات.
حنّان من إحدى قرى دير حافر، في ريف حلب الشرقي.
يعيد حنّان قصة الرجل الذي قتل ابن عمه منذ عشرين عاماً، ماتت القضية في ظلّ حكم الأسد بدفع الرشاوي، وعندما بسط تنظيم الدولة سيطرته على قرية حنّان رفع أهل المغدور قضية مقتل أخيهم للقضاء الشرعي التابع للتنظيم، فقاموا بقتله. حفظتُ القصّة من فم حنّان، إذ أعاد روايتها لي مراراً، قبل النوم وبعده، متحدثاً بكل تفاصيل الإعدام، حتى أن بعض عناصر التنظيم كانوا يشربون مشروب الطاقة أثناء تنفيذ الحكم.
«لا تنام، أخاف أحلم بهذا الرجل السمين»، أجيبه بأنهم لن يذبحوه، وأتلمّس رقبته ممازحاً: «رقبتك نحيفة، إن كان حُكمُكَ القتل فسيتركونك سنة على الأقل حتى تسمن قليلاً، فمن سيذبحكَ -لا سمح الله- لن يشبعَ بذبح رقبتك الضعيفة».
– استهدي بالله ونام، ولا تخاف إلا من الله.
– لا والله يا إعلامي، أخاف من المحقق أكثر من الله. هل الله مثلهم يلبس اللثام؟ سأطلبُ منهم عند أخذي للذبح أن يخدروني، بعض المعتقلين يخدرونهم قبل الذبح كي لا يزعجوهم بالصراخ، لو يخدروني أحسن لي.
كبسةُ زر اللمبة من قبل أمير المهجع تعيدُ المساجين من أحلامهم، التي لو أردتُ معرفة أي منها فليس عليَّ إلا أن أقف بالقرب من صاحب الحلم في طابور الوضوء، وأسمعه يحدّث حلمه للمختص بتفسير الأحلام.
بعد صلاة الفجر تعود الوجوه مثلما هي، ترتخي عضلات الوجه المتشنجة بحسب الحلم، نشربُ الشاي، نقعدُ على شكل مجموعات دائرية، كل فصيل ثوري يلتف حول نفسه، والشبيحة أيضاً كذلك، وعناصر وحدات الحماية، يتحدثون إلى بعضهم بعضاً. حنّان يضحك، يحمل كأسه المعدني الذي صنعه من علب الفول، ينتقل به بين المجموعات يشحذ الشاي، قليلٌ من عناصر جبهة النصرة، وقليلٌ من عناصر لواء التوحيد، يملأ كأسه المعدني. نجلس ونراقب السماء التي بالكاد نرى منها شيئاً، يصعد حنّان على الشوفاج، يرفع جسمه بيديه على النافذة، يشم شهيقاً من الهواء، ينزل، نتداول كوب الشاي، ندعو من هم في الحارة الشمالية، أي وراء الحائط الذي يقسم المهجع إلى قسمين، نضحكُ وكأن حنّان لم يَخَف بالأمس.
ليل السجن كابوس على كل السجناء، يتلاشى الكابوس مع أذان الفجر، من يستطيع ترويض ليل السجن، هو السعيد. قبيل النوم المفروض بعد صلاة الضحى، يخط حنّان على الحائط يومه الجديد: «خمسون يوم مدة سجني هنا، عدا أيام سجني في «سجن الإمام» في دير حافر. في حال تم الإفراج عني، لن تعرفني بنت عمي». حنّان الغبي -كنت أتحاشى إخباره بما يدور في خاطري تجاهه- تهمته أن أمه خطبت له بنت عمه، لتردَّ عليه الأخيرة بالرفض مبررة ذلك: «ابن عمي أنت مو لابس.. شلون بدّي أخذك؟!».
«مو لابس»، أي أنه لم يخدم في صفوف الجيش النظامي، يقول لها إذاً انتظريني، أخدم، أتسرح، ثم أعود، يعتقله حاجز الزكيّة بريف حلب أثناء ذهابه إلى مناطق سيطرة قوات النظام.
«أحبها… شنو أسوي بحالي يعني؟»، هكذا كان يرد عليَّ عندما ألومه على ما فعله بنفسه.
ننام، ونقعدُ على صوت توزيع الطعام، كل مجموعة ترسل شخصاً منها يحضر الطعام، نأكل ونصلي الظهر. كلماتٌ تعلو وأصواتُ ضحكاتٍ تُعاركُ أصواتَ الجنازير والتعذيب، وكلما ارتفع صوت السجين المعذب، كلما ارتفعت أصوات السجناء، فهم لا يريدون سماع صوت أحدهم يتعذب. صوت حنّان يسمعه كل السجناء وهو ينظم دور توزيع مياه الشرب أثناء وجود المياه، يملأ قناني المياه، لكل خمسة أشخاص قنينتان يومياً. يعيدُ حنّان، الموكل بهذه المهمة من قبل أمير المهجع، جملته للسجين المستلم بالنيابة عن الأربعة الآخرين: «هي حصتكم.. بدكم تشربونها أو تتشطفون بيها أنتم أحرار»، يرد عليه آخر: «لا.. نحن جبهة مو أحرار».
لم أستطع التغلب على التقلب الحاد للمشاعر، أحاولُ جاهداً حبس الدمعة لكني لا أستطيع، أُطيل النظر في النافذة، انتظر دخول الشمس الذي لا يتجاوز ربع الساعة ظهراً، أضع يدي تحت أشعتها، يبتسم أبو مراد في وجهي، يمازحني.
«لا تبعد خليك هون في حواجز كتير ع الطريق، حواجز التفكير بالحياة خارج السجن أصعب من الحاجز يلي اعتقلك».
أطلبُ من أبو مراد حلاً كونه المتعلم الوحيد في المهجع، هو حاصل على شهادة في القانون الدولي من جامعة السوربون. لم يقل ذلك لأحدٍ باستثنائي أنا بعد سجال كلامي بيني وبينه، وعندما سأله المحقق: «هل أنت متعلم؟»، كونه يرتدي نظارات، ردَّ عليه أنه حاصل على شهادة الثانوية فقط. يبرر لي جوابه للمحقق: «في كل العالم افتخر بتحصيلك العلمي، إلا عند هؤلاء افتخر بجهلك». يواصل نصحي: «مررتُ بما تمرُّ به أول خمسة أشهر من سجني، هذا -ويشير إلى رأسي- يجب أن يتم غلقه وتغليفه وتشحيمه. المتعلم يا بني ليس من يتحدث بالمعلومات التي قرأها، هذه تسمى معرفة، المتعلم من يتحكم بجهله، خاصة هنا، هنا بالذات».
قلت في سريّ: «لو سقراط بذاته معتقل عند هؤلاء لتنازل عن كل نظرياته».
يواصل الحاج أبو مراد نصحه: «قاتل لأجل رغيف الخبز، قاتل لأجل ملعقة إضافية من اللبنة، قم بحصر كل حياتك داخل هذا الجدار، حتى ما يخطر في بالك روضه كي يكون داخل هذا الجدار. كلما ابتعد تفكيرك أكثر عن هذا الجدار، كلما احترقت من الداخل».
أتركُ أبا مراد وأذهبُ للّعبِ كي أنسى، نتغلبُ على كل شيءٍ بألعابنا، نحن أطفال المهجع، هكذا يسمينا من هم أكبر منا، نضربُ بعضنا بعضاً، نبعثر الكيس المخصص لفلان وفلان، نلعب به كرة طائرة، كلما تخطر في أذهاننا صورة من الحياة الطبيعية في الخارج نحاربها بضرب سجين آخر، وهكذا ننفس عن همومنا بأشياء أخرى.
أسمعُ سجيناً من كبار المهجع، ممن هم أكبر منا عمراً، يتمعنُ في ضحكنا ويقول لآخر: «الله لا يكبرهم». أسمعُ كلمته فأعود إليه، أساله: «ماذا تقصد بقولك الله لا يكبرنا؟ نحن نلعب، هل هذا ممنوع هنا أيضاً». يجلسني، يعتذر إن كان في عبارته أي إساءة، يسألني: «هل أنت متزوج؟»، أردُّ عليه بالنفي، فيتابع: «هل لديك ثماني بنات لا تعرف ماذا يأكلن الآن؟ هل لديك أم عاجزة وأخوتك تركوها لك وسافروا؟».
بدأت عيناه تتغيران إلى الأحمر وتمتلئان بالدموع: «ما قصدي الإهانة لكم، ولكن يا ليتني بعمرك ولا يوجد لدي مسؤوليات، ولأُعتَقَل عشر سنوات».
بالرغم من المأساة التي نتشاركها كلنا على اختلاف تهمنا، كان ثمة نزعة رفضٍ تجاه الشبيحة، لقد كنتُ أصارع نفسي أثناء التحدث معهم وقبولهم في حياتي داخل السجن. حنّان لم يشبّح، ولولا بنت عمه لكان عاملاً في أرضهم، هكذا أقنعتُ نفسي وأعطيتُ حنّان بطاقة عبور سمحت بالتحدث معه، أما هذا الرجل صاحبُ قصة بناته الثمانية وأمه العجوز فقلت له: «إن كان لديك من الوجع ما لديك، لماذا تذهب وتغامر بحياتك كي تنتخب بشار الأسد، وهو الذي قتل بناتاً كثيرات مثل بناتك، وأكثر من أمٍ تشبه أمك؟».
أتركه لأنني أكره مثل هذه النقاشات، أسألُ حنّان: «لماذا لم تنتسب للجيش الحر؟»، فيرد بكل استهزاء: «لحتى أنشلف مثلكم هين، ومحدا يسأل عليكم، أنتم مو الله معكم.. ليش ما ينصركم؟!».
أقتنعُ بنصائح أبو مراد، ليس كل سؤال يجب البحث عن إجابه له، لستُ مضطراً للتفكير بكل شيء. يحين موعد الغداء، نأكل، نلعب، نلعب لعبة: ما هو أول شيء سوف تفعله في حال خرجت؟ واحدٌ يذهب إلى تركيا وعندما يقطع «التيل» من طرف مدينة الراعي بريف حلب، ينظرُ خلفه ويبصقُ على سوريا، وآخر يذهب إلى منزل أهله حافي القدمين.
على الرغم من القسوة التي أحيطُ نفسي بها، وعلى الرغم من أنني أُقنع نفسي أن أهلي ماتوا ولم يعد لهم وجود، يسوقني الشوق من رقبتي إلى مكاني، أحاول النوم لرؤيتهم في المنام، أخمن الحلم الذي أريد رؤيته، أمرن خيالي على ذلك، أسترخي، أعزلُ نفسي عن المحيط، أغلقُ عيني بقميصي. شهيقٌ أحبسه ثم زفير ببطء، يتراءى لي انعكاس ضوء الشمس على حبات الباذنجان المقلي بالزيت في مطبخنا، تجلسُ أمي بالقرب من الغاز وهي تقلب حبات الباذنجان، تغني لأخي الشهيد، تستحضرُ روحه. مستلقياً على أرض بلّلتُها بالماء من شدة الحر، يتضاربُ صوت غناء أمي بصوت حنّان النشاز. أعودُ إلى المنزل باذلاً أقصى ما لدي من طاقة، أحاولُ شم رائحة الباذنجان المقلي، تتقدمُ أختي الصغيرة مني، تسألني: «خليفة.. إيمتى بدك ترجعلنا؟؟».
تدور أحداث النص في صيف عام 2014، في سجن المحكمة الإسلامية بمدينة الباب شرقي حلب، التي سيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية مطلع عام 2014 بعد معارك طاحنة مع الفصائل الثورية.