تم نشر القصة على موقع درج هنا
أنا أنثى لها حظ ذكَرَين من شقاء الحياة، هل تعلم أنني بعد نزوحنا عرفت أن للسرير منافع أخرى غير النوم فقط؟
الى الرياضية الإيرانية زهرة قدي
هنا قصة شابة سورية اسمها عليّا تبلغ من العمر 35 عاماً، كانت قد نزحت مع أهل قريتها من قرى حماة، إلى منطقة سرمدا شمال إدلب. وهي تقطن الآن في مخيم داخل أحد مكبات النفايات وتعمل في المكب.
يرصد النص بعضا من قصص عليّا وعلاقتها مع جسدها وكيف تتعامل مع مظهرها وكيف يراها أهل قريتها.
في مكب للنفايات على أطراف مدينة سرمدا شمالي إدلب، يتراكض رجال ونساء وأطفال خلف سيارات النفايات، علهم يجدون ما يكمن بيعه داخل المكبات. في جانب أخر من المكب، زاوية لرمي أنقاض المنازل المدمرة. يشكل هذا الركام مصدر رزق لعليا وكثيرون غيرها من سكان المخيم.
لفت انتباهي وضع عليّا “مهدة” كبيرة وثقيلة على كتفها وهي تركض خلف الشاحنة التي ترمي بأنقاض المنازل، تقف عليّا بالقرب من الشاحنة لـ”تحجزها”، فيكون الحديد المستخرج من الاسمنت من نصيبها.
ترتدي الشماغ الأحمر كحجاب، ولها فيه مآرب أخرى: تلثم به فمها، وتغطي معظم وجهها، مرتدية معطفاً جلدياً أسود وتنتعل حذاءً رياضياً، فيصعب تمييز هندامها عن الرجال.
تقدّمت منها وسألتها عن عملها في هذه المهنة الشاقة وأخبرتها عن نيتي جمع شهادات عن نساء سوريات، لترد على سؤالي من دون النظر في عينيّ، وتخبرني انها غير متفرغة للاسئلة الآن، لأنها إذا لم تستخرج عشرة كيلوغرامات من الحديد فلن تأكل اليوم.
“تعال غداً واسأل عني في المخيم، قل لهم أريد علي أو عليا سيدلونك إلى مكان خيمتي”.
في اليوم التالي، زرتها وجلسنا أمام خيمتها، تسكن وحدها في خيمة مبعثرة المحتويات. لكن لا يوجد اي مستحضرات تجميل او عطورات. لا شيء من هذا، ولا حتى مرآة. لا يوجد ما يعكس صورتها داخل الخيمة. لكنها حاولت أن تعكس لي صورتها. حكت، لكي أراها.
“ماذا تتوقع من أنثى تعمل منذ ولادتها في رعي البقر وجلي الصحون وحمل الماء مسافات بعيدة وعلى طرق منحدرة في قريتي في حماة؟
هل سيصبح جسمي كجسم الفنانات اللواتي يستحمنّ بالحليب؟
أنا أنثى لها حظ ذكَرَين من شقاء الحياة، هل تعلم أنني بعد نزوحنا عرفت أن للسرير منافع أخرى غير النوم فقط؟
تستطيع أن تبقى طوال اليوم مستلقيا وتأكل وتشرب على سريرك، بينما نحن كان ممنوع علينا أن نرفع أقدامنا إذا ما شاهدنا التلفزيون ومن المعيب أن نستلقي في السرير وعيوننا مفتوحة، طول اليوم عمل ووقوف على القدمين ولا نستلقي إلا أثناء النوم، تخيل أنك تستطيع إذا ما مرضت ان تستلقي حتى تتعافى!
أنا أنثى لها حظ ذكَرَين من شقاء الحياة، هل تعلم أنني بعد نزوحنا عرفت أن للسرير منافع أخرى غير النوم فقط؟
الى الرياضية الإيرانية زهرة قدي
هنا قصة شابة سورية اسمها عليّا تبلغ من العمر 35 عاماً، كانت قد نزحت مع أهل قريتها من قرى حماة، إلى منطقة سرمدا شمال إدلب. وهي تقطن الآن في مخيم داخل أحد مكبات النفايات وتعمل في المكب.
يرصد النص بعضا من قصص عليّا وعلاقتها مع جسدها وكيف تتعامل مع مظهرها وكيف يراها أهل قريتها.
في مكب للنفايات على أطراف مدينة سرمدا شمالي إدلب، يتراكض رجال ونساء وأطفال خلف سيارات النفايات، علهم يجدون ما يكمن بيعه داخل المكبات. في جانب أخر من المكب، زاوية لرمي أنقاض المنازل المدمرة. يشكل هذا الركام مصدر رزق لعليا وكثيرون غيرها من سكان المخيم.
لفت انتباهي وضع عليّا “مهدة” كبيرة وثقيلة على كتفها وهي تركض خلف الشاحنة التي ترمي بأنقاض المنازل، تقف عليّا بالقرب من الشاحنة لـ”تحجزها”، فيكون الحديد المستخرج من الاسمنت من نصيبها.
ترتدي الشماغ الأحمر كحجاب، ولها فيه مآرب أخرى: تلثم به فمها، وتغطي معظم وجهها، مرتدية معطفاً جلدياً أسود وتنتعل حذاءً رياضياً، فيصعب تمييز هندامها عن الرجال.
تقدّمت منها وسألتها عن عملها في هذه المهنة الشاقة وأخبرتها عن نيتي جمع شهادات عن نساء سوريات، لترد على سؤالي من دون النظر في عينيّ، وتخبرني انها غير متفرغة للاسئلة الآن، لأنها إذا لم تستخرج عشرة كيلوغرامات من الحديد فلن تأكل اليوم.
“تعال غداً واسأل عني في المخيم، قل لهم أريد علي أو عليا سيدلونك إلى مكان خيمتي”.
في اليوم التالي، زرتها وجلسنا أمام خيمتها، تسكن وحدها في خيمة مبعثرة المحتويات. لكن لا يوجد اي مستحضرات تجميل او عطورات. لا شيء من هذا، ولا حتى مرآة. لا يوجد ما يعكس صورتها داخل الخيمة. لكنها حاولت أن تعكس لي صورتها. حكت، لكي أراها.
“ماذا تتوقع من أنثى تعمل منذ ولادتها في رعي البقر وجلي الصحون وحمل الماء مسافات بعيدة وعلى طرق منحدرة في قريتي في حماة؟
هل سيصبح جسمي كجسم الفنانات اللواتي يستحمنّ بالحليب؟
أنا أنثى لها حظ ذكَرَين من شقاء الحياة، هل تعلم أنني بعد نزوحنا عرفت أن للسرير منافع أخرى غير النوم فقط؟
تستطيع أن تبقى طوال اليوم مستلقيا وتأكل وتشرب على سريرك، بينما نحن كان ممنوع علينا أن نرفع أقدامنا إذا ما شاهدنا التلفزيون ومن المعيب أن نستلقي في السرير وعيوننا مفتوحة، طول اليوم عمل ووقوف على القدمين ولا نستلقي إلا أثناء النوم، تخيل أنك تستطيع إذا ما مرضت ان تستلقي حتى تتعافى!
ولدت في قرية جبلية تتطلب مني يومياً صعوداً ونزولاً، مما زاد قوة عضلات قدمي من كثرة المشي.
كانت شكل جسدي هو مشكلتي مع الحياة والناس، لكن الآن لم يعد شكل جسمي مشكلة بيني وبين نفسي، وخاصة في عملي.
ولدت في قرية في محافظة حماة، نعمل بالرعي والزراعة، كنت أحب الأخرين في صغري لذلك كنت اعمل على مساعدتهم وكان والديّ يثنيان على عملي المتفاني بالأرض لذلك كنت أزيد من عملي ومساعدتهم حتى اسمع مديحهم لي.
كنت اظن انني بمساعدتي لأهل القرية، يزيد حبهم لي، لكنهم كانوا هم انفسهم من تنمروا على جسمي عندما أخذت عضلاتي تكبر كعضلات الرجال.
وعندما كبرت؛ انتقلت بالنسبة إليهم من خانه الفتيات اللواتي تبحث عنهن الأمهات ممن يردن تزويج أولادهن الذين أنهوا الخدمة الإلزامية، إلى خانه الفتيات اللواتي يبحث عنهن من يريد خادمة لرجل مسن ماتت زوجته ويريد من تهتم به وتنظف تحته أو لرجل ماتت زوجته ويريد من تربي له أولاده.
كبرت ومرت السنين، تزوجت فتيات القرية اللواتي من عمري كلهن تقريباً. ثم بدأت نظرات أمي تتغير تجاهي، وكأنني موسم زراعي فسد ويريدون بيعه بأرخص الأثمان حتى لا يحتل مساحة من المخازن من دون فائدة. لولا العيب، يخيل إليّ أن أمي كانت لتقف فوق خزان المياه في القرية (الحاووظ) وتصرخ بأعلى صوتها: “من يتزوج عليّا له دونم من شجر الفستق”.
تجاوز الأمر الهجوم علي لأنني أنثى جسمها “رجّالي” كما يقولون، ووصل إلى حد استخدامي لكي يخوّف الأهل أولادهم مني. تمزح إحداهن أمامي قائلة: “ما عندك صورة حتى أعلقها بغرفة الأطفال في حال لم يسمعوا كلمتي!؟
سأقول لك أني الأن تجاوزت من العمر 35 ولا أتذكر أن لدي صورة واحدة إلا عندما دخلت المدرسة في الصف الأول ابتدائي.
أضعف واكتفي بالابتسامة عندما يتحدثون عني وعن شكل جسمي. اكتفي بابتسامة، وأبلع ريقي ليتحول إلى ماء ساخن يغلي ويسري في جسدي.
القصص التي حدثت في حياتي تشبه بعضها ولكن الأشخاص يتغيرون لا يوجد لباس نسائي داخلي على مقاس جسمي في محل بيع الملابس النسائي في القرية، لذلك كنت أضع مشد الظهر على صدري … باختصار قصص لا أحب تذكر الكثير منها.
حدثت هذه الثورة وعند حديثي عن الثورة، أنت قلت لي ستكتب كل ما أقول أليس كذلك؟!
أنتم تشتمون بشار (بشار الأسد) وأنا أحبه … وأحب أيضاً أبو روسيا الأشقر (الرئيس الروسي فلاديمتير بوتين)، تعرف لماذا؟ لأنهم كانوا من حكمة الله على هؤلاء الناس الذين “يسترخصون” من الإناث من هم مثلي والدنيا لديهم مال وجمال فقط.
هذا أبو العيون الزرق (بشار الأسد) من شطفوا باحة المدرسة وعلقوا حبل من اللمبات لأجل عيونه الزرقاء، ورقصوا تحت صورته، انظر ماذا فعل بهم!
اقترحت إحدى جاراتنا على أمي، أن أغير طريق الذهاب إلى الأرض والعودة إلى المنزل، لنمرّ من أمام منزل اتخذه مقاتلون أجانب مقراً لهم، عسى ان ينظر الله في وجهي ويطلق نصيبي كما قالت، “فنسبة كبيرة من هؤلاء (المقاتلون الأجانب) تريد فقط الزواج ولو من جحشة”. قالت جارتنا كلمة جحشة ونظرت إليّ!
ولحسن حظ ” الجحشة” التي أمامك، استهدف صاروخ هذا المقر ولم يبق من هؤلاء أحد.
وعلى سيرة الحيوانات، كانوا أصدق من الناس معي، يشعرون بغيابي إذا ما غبت عنهم ولا يأكلون العلف من غيري، لماذا لا يذكرون إلا للانتقاص منهم أو لاستخدامهم كشتيمة، مثلما يحدث معي؟
في بداية عام ٢٠٢٠ اشتد القصف على منازلنا، خلت القرية من الناس، بالكاد تسمع صوت صدى دراجة نارية على الطريق العام للقرية، أو صوت ضجيج لعائلة عادت لتأخذ بعض حاجياتها.
لم أنزح لأنني لم أجد سيارة تنقل حيواناتنا وأغلب السيارات يطلبون أسعاراً مرتفعة جداً لنقلنا وليس لدينا المال الكافي.
لم يتوقف الناس عن التنمر عليّ، قالت إحداهن: “في حال دخل الشبيحة إلى القرية وعليّا بقيت، الشبيحة لن يغتصبوها … يفكرونها رجل”.
لا أجد ازاء هذا النوع من الكلام إلا الصمت. حتى من يحاولون مواساتي، يهينوني: “كلنا خلقة الله لا تزعلي”.
في النزوح الأخير، وبعد أن عرفنا أن بشار بدء يدخل ورجاله إلى القرى المحيطة، وأثناء حملي لغنمتين وسيري في اتجاه الطريق، علني أركب في صندوق سيارة عسكرية، انتبهت أن رجلاً مسناً مع زوجته لا يزالان في القرية. رأيتهما يتواريان داخل منزلهما وهما يرتجفان من البرد. تركت الغنمتين وحملت هذين المسكينين وأكملت مسيري.
وقفت عند مفرق القرية بالقرب من حفرة خلفتها غارة جوية، في مكان سيضطر معه اي سائق إلى ايقاف سيارته رغماً عنه. بعد ساعة مرت سيارة ووقفت لتتفادى الحفرة، من نظرات السائق عرفت أنه لن يوقف السيارة ليقلّنا. مددت يدي من خلال نافذة السيارة وأمسكته من رقبته وصرخت في وجهه: “يا ما تخاف الله تاركنا لبشار.. طالعني وطالع هالمساكين!”.
أرهبته بشكلي، كان لشكلي فائدة.
مكب النفايات:
كل شيء تحول إلى مخيم في إدلب، محطة الوقود فيها خيم، الطريق يمينه ويساره منصوبان بالخيم، مكب النفايات تحول إلى مخيم، هنا استقر بنا الحال، بعد طردنا من بعض أصحاب الأراضي الزراعية.
أهلي تبعثروا بين المخيمات، أخوتي الشباب التحقوا بمعسكرات للفصائل بعفرين والفصيل العسكري يؤمن المنزل للمقاتل من دون دفع إيجار.
اتخذت القرار أن أكمل حياتي وحيدة، أبي مات، وأمي تقضي أيامها على الطرقات تطلب من السيارات أن توصلها إلى منزل أخوتي وتقضي أيامها، كل أسبوع في منزل أحدهم، تزور خيمتي أحياناً.
أما أنا فوجدت عملاً في التنقيب بين النفايات عن أي شيء يمكن بيعه. لا احتاج إلى أحد.
في البداية كان المكب لبعض الأشخاص، يحتكرونه ويعمل معهم عدد من الأطفال، وأحياناً، هؤلاء الأشخاص يضربون هؤلاء الأطفال، ذات يوم استنجد بي أحد الأطفال شاكياً أحد “المحتكرين”، ضربت الرجل على رقبته بعد ملاسنة بيني وبينه عن حق الطفل، فما كان منه إلا أن وقع على الأرض غير قادر على التنفس، مما استدعى اسعافه إلى المشفى، لكنه لم يمت.
هنا، أخذت تحاك حولي القصص والبطولات، مرة يقال إنني قتلت عنصراً من هيئة تحرير الشام وإني لا أخشى أحد، واللثام الذي اغطي به وجهي، أمسح به السكين من الدم بعد ذبح الرجال الأشرار، وقصص على هذا المنوال، حاكها الأطفال عني في المكبّ، ما جعل لي هيبة خوّلتني ان أقف فوق صناديق سيارات النفايات واعرّب الخردة بحسب نوعها وأوزعها على مجموعات الأطفال والشباب لبيعها.
بعد هذا الدور أيقنت أن الله لا يكرهني ولم يجعلني جميلة كما يراني أهل القرية، بل جميلة بالمهام والعمل في هذه الحياة ومن متطلبات هذا العمل جسم كجسمي. الله خلق لكل منا مهمة، ربما لو انجح في الخروج من سوريا، أكون بطلة من بطلات حمل الأثقال العالميات.
قبل أن أخبرك لماذا انتقلت إلى سحب الحديد من المنازل المدمرة في المكب أو الذهاب إلى المنازل المدمرة في القرى التي صارت خط تماس، دعني أخبرك طرفة عن القرى: عندما تأتي شاحنة محمّلة بالنفايات من قرية أهلها ميسورو الحال، يتقاتل الأطفال فيما بينهم على بقايا الطعام وعلى نفايات هذه القرية، وإن كانت القرية فقيرة، قد لا يذهب الأطفال لمعرفة ماهي حمولة السيارة من النفايات، لذلك ولتخفيف الاشكالات بين الاطفال، كان اتفاق بيني وبين سائقي الشحنات الآتية من القرى الغنية، أن يصرخوا بأعلى صوتهم باسم القرى الفقيرة أو أسماء المخيمات، عند دخول المكب لئلا تندلع المعارك بين الأطفال.
عندما بدأت بعض القرى ترمم منازلها المدمرة وتقوم سيارات الدفاع المدني بفتح الطرقات بعد انتهاء القصف، كانوا يجلبون الحجارة والأعمدة الحجرية إلى المكب أو نذهب إلى المنازل المدمرة ون.
في هذه الأثناء خطرت لي فكرة بيع الحديد والحجارة من المنازل المدمرة، لأنها مهمة صعبة ولا يتعارك عليها أحد وتناسب جسمي. أخذت بفك الحديد عن الحجر وعزل الحجر القابل للبناء، وعرضه على تجار الحديد، ليتم إعادة صهره وبيعه مرة أخرى في مدينة أعزاز.
أما الحجارة، فأبيعها لأهالي المخيمات الذين يريدون بناء جدار أمام باب الخيمة حتى لا يرى أحد بناتهم.
وهكذا بدأت عملي واستمر حتى اللحظة، المنازل المدمرة كثيرة والعمل لن ينتهي، استمد طاقتي من قوتي البدنية، وإذا ما تعب جسدي، اتخيل أن المنزل الذي أكسر حجارته يعود لأحد أهالي قريتنا المتنمّرين، لتعود لي طاقتي ولا أستريح إلا عندما يغلبني النعاس.