تم نشر القصة على موقع الجمهورية هنا
الصورة لابي خالد والكاتب في حي الجزماتي في حلب عام ٢٠١٥
«تُدخِلُ أسماء الأسد صينية الأكل من نوعية معدن «البافون» فضيّة اللون، عليها صحن بيض مقلي مع لحمة، صحن بندورة حمراء «دم» مفرومة ومرشوش عليها الملح، مع رغيف خبز مطوي وكوب شاي. تقولُ لي: تفضل يا أبو خالد. تبتعدُ عني وتنظرُ إليَّ من بعيد، حاملةً بيدها ابنتها شام تريدُ إسكاتها من البكاء ولا تستطيع، تغلقُ فمَ شام بقبضة يدها، تقول لها: «اسكتي… ألحز يجي أبوچ». أنفضُ الغبار عن ملابس العمل، أحملُ شام، أُسمّي وأكبّرُ عليها، تغفو في حضني، أعيدُها لأمها وأعود لإكمال عملية تبليط أرضية المطبخ في بيت بشار الأسد».
يقصُّ أبو خالد قصص مغامراته الكونيّة، فيما يلتفُّ حوله كثيرٌ من أهالي الحي، يصدّقونه للاستزادة من قصصه، لا لشيءٍ آخر.
كان معظم سكّان الحي الشعبي الحلبي قد نزحوا أول مرة أثناء معارك التحرير عام 2012، لكنهم عادوا إليه ليواصلوا حياتهم. ثم كان النزوح الثاني إثرَ تقدم قوات النظام مصحوبة بالميليشيات الشيعية باتجاه اللواء 80 شرقي حلب مطلع عام 2014، عندما كثّفَ النظام استخدام البراميل المتفجرة بشكلٍ رهيب، ما جعل معظم الأهالي يغادرونه بعد نحو عامٍ من الحرية وحسن حال المعيشة. بعد موجة النزوح باتجاه الأرياف وتركيا، لم يبقَ في الحي إلا القطط الصامدة وحواجز الجيش الحر ومن لا يملك المال للسفر، وأيضاً من جرّب النزوح أول مرةٍ وعاش الذل في مخيمات اللجوء، فأقسم أن يموت جائعاً تحت سقف منزله على ألا يتم تصويره أثناء عملية توزيع الطعام.
«ملأنا أكياس النايلون ماءً، وعلقناها في أسقف المنزل كي ينزح الذباب عنا. نزحنا نحن ولم ينزح الذباب عن أكياس النايلون»، هكذا يُعلّق أحد أبناء الحي لي عبر رسالة واتس أب بعد نزوحه.
توقيتُ نومي غير مرتبط بشروق شمس أو غروبها، بل بليتر البنزين الموجود في المولدة الكهربائية. عندما تفرغ المولدة من البنزين، وتتوقف شبكة الانترنت بسبب ذلك، يحين موعد نومي. ومع بزوغ الشمس، يوقظني صدى صوت عكازة أبو خالد الخشبية على جدران الحارة المهترئة، وصوت أدعيته مناشداً أصحاب المنازل، كل واحدٍ باسمه، أن يعودوا: «يا خليف ويا أبو حسين.. بجاه هالصبحية والمصاحف المطوية.. ترجعولنا قبل المغربية». يتجه نحو مكتبي الإعلامي، ويقف على مسافة يقدّرها عقله، ثم يطلب من عمّار، جاري، أن يوقظني من النوم لأقول له آخر أخبار العالم.
كان أبو خالد قد سمع أن الطيران المروحي التابع للجيش الأسدي يرى حتى «أتكيت» نمرة القميص، لذلك يأتي لرؤيتي قبل الثامنة صباحاً، أي قبل أن يبدأ الطيار عمله اليومي في قصف الأحياء المحررة من مدينة حلب، لأنه يخاف أن تلتقط المروحية صورةً له وهو معي، فتقوم بقصف منزله على الفور.
يعود إلى منزله الحجري الذي عمّره بيديه في سبعينيات القرن الماضي، عندما كان شاباً. يشدُّ بقبضة يده عندما يروي لنا كيف بنى منزله، يُحضّرُ لنا الشاي على نار أوقدها ببنطاله، أو بحذاء قديم له أو لجاره، فالضغط الهوائي المتولد عن البراميل المتفجرة فتح الأبواب المغلقة، وساعدَ أبو خالد على الاستعانة بأحذية منازل الجيران. يعلّقُ ساخراً بعد تأنيبنا له، «لماذا دخلت منزل فلان؟»: «إن رجع فلان، أرجعله بدل البوط… عشرة، هاي إن رجع».
بعد كل حفلة شرب شاي كان يقصُّ علينا حكاية البنطال: متى اشتراه ولماذا وبكم، أو من أي منزل هذا البنطال، ما قصة صاحبه وماضيه، متى وكيف سكن الحي، ومن أي عشيرة زوجته.
نشربُ الشاي تحت شرفة منزله كي لا يرانا الطيار، فالطيار يرى أيضاً لمعة إبريق الشاي تحت أشعة الشمس. يظنُ الذين شهدوا المجازر في ثمانينيات القرن الماضي أن النظام الأسدي يسمع سرّهم ونجواهم، وأن القتل والإعدام بحسب ما تخفيه الصدور.
يذكرُ لنا أبو خالد أن الطيار أرادَ قصف دوار الحاووظ في حلب منذ مدة عندما رأى سيارة تحمل رشاش دوشكا تابعة للجيش الحر، وأنه كان يصوّب على السيارة، لكنه عندما اقترب من الهدف لاحظَ أنه عبارة عن سيارات مدنية تقلُّ مواطنين تجاه الأرياف، وعمالاً لا ناقة لهم ولا جمل في هذه الحرب، أما سيارة الدوشكا فكانت قد مرّت وانتهى الأمر، وقبل أن يضغط زر الصاروخ، رفع «فرام اليد»، وعاد إلى المطار ولم يقصف أحداً.
«يا خي ما يعيلون ع حدا… ما يعيلون»، قالها بصوتٍ عالٍ عسى يسمعه الطيار، فلا يقصف منزله. كان الهدف من نظرياته وقصصه التي يُحيكها مع ظلام الليل، أن يتجنبَ تعرّضَ منزِله للقصف.
كنتُ أبدأ يومي آنذاك بتعقبِ الطيران المروحي على دراجتي، أحدّدُ اتجاه الطائرة وأقدّرُ مكان سقوط البراميل المحتمل. أصلُ مكان القصف، أصورُ الجثث وما تم قصفه من المنازل، وأينما تتجه الطائرة أتجه خلفها رافعاً رأسي نحو السماء حتى لا تضيع مني.
أتعقبُ الطائرة المخصصة لي من بين الطائرات التي تحوم في سماء الأحياء المحررة، فنحن ثلاثة عاملين لصالح مركز إعلامي واحد، كلٌ منا له طائرته التي يتعقبها حسب التوزع الجغرافي لسماء الأحياء المحررة. ينتهي دوامي مع غروب الشمس وامتلاء ذاكرة «الكرت الخارجي» للكاميرا، وفي طريق العودة إلى المنزل أشتري سندويشة بطاطا من عند «فروج الشرق»، آكُلها وأكملُ طريقي بين الشوارع. أسيرُ مائلاً على شكل «زكزاك» بدراجتي على ضوء «بيلٍ» مشحون أتفادى به الحفر التي خلّفتها البراميل المتفجرة. أتسلى إلى حين وصولي بصدى صراخي على جدران المنازل المهجورة، أصلُ المنزل، أشعلُ المولدة الكهربائية، أحمّلُ المقاطع التي صورتها والصور التي التقطها على رابط «دروب -بوكس» المشترك مع المكتب الإعلامي الرئيسي.
يقطعُ صوتُ أبي خالد وشعيلة، زوجته، وقتَ انشغالي برفع مقاطع الفيديو.
تربطهما علاقة حب غريبة، فقد يضربها بيده على خدها الأيمن ويُقبّل خدها الأيسر قبلَ أن تبرد حرارة كفه على خدها الأيمن. يصرخُ في وجهها لأنها لم تضع كوب ماء بالقرب من مائدة العشاء، الذي ليس أكثر من صحن زيتون، وزعتر مع زيت نباتي!!
يُذكّرها بقصة زواجه منها، وكيف أن أهلها قالوا له: «تزوجها ولكَ ميراثها».
تردُّ عليه: «لو ما أخي العميد في الشرطة ما تزوجتني»، فيقول: «وأخوچ ألحز تقاعد… حلي ع بيت أهلچ ما تلزميني».
عن أي أهلٍ يتحدث، وقد مات نصف أهلها والنصف الأخر مشردون، وعمرها قد تجاوز الستين عاماً.
نصلُ إليه أنا وعمّار، نقدّمُ له الماء فيُنهي صراخه ويروي لنا قصة من قصصه الكونيّة، كيف دخل إلى الجولان المحتل بالخطأ بعد أن ضلَّ الطريق، ليعيده الكيان الصهيوني إلى الأردن، ومن ثم يعود إلى سوريا براً.
أعودُ إلى المنزل، فيطلبُ مني أثناء عودتي إغلاقَ النافذة بغطاء غامق اللون كي لا يرى الطيار ضوء الغرفة متسرباً إلى الخارج. «يقول الطيار لنفسه إن أهل هذا المنزل نازحون»، يحاولُ أبو خالد إقناعي بهذه الجملة.
أقرأ ما تيسر لي من كتبي الجامعية التي هجرتُها تزامناً مع تحرير المدينة صيف عام 2012، أغلقُ الكتاب، أحاولُ النوم، أتقلب. أصواتُ الاشتباكات ترتفع من جهة مطار النيرب العسكري وحي كرم الطراب، طلقات رشاش من عيار 23 تضرب جدار منزل جاري، أختبئ منها تحت لحافي الأخضر، أفكر: في حال تم قصف المنزل، ماذا لو اتسخ اللحاف؟ قد تصرخ في وجهي أمي لأنها كانت قد غسلت أغطية المنزل كلها قبل النزوح.
ليس التفكير باللحاف والغبار سوى هروبٍ من أصوات الاشتباكات. أحملُ بيدي قنبلة يدوية الصنع، مصنوعةً من «فارغة رشاش شيلكا» كان قد أهداها لي عمّار، جاري. تتعرقُ يدي، لا أعرفُ استخدامها، لا أردُّ على رسائل أهلي التي تطلب مني العودة إلى الرقة.
أستحضرُ صورَ مستقبلي، فيقاطعني طرقٌ على الباب بطريقة غريبة. أفتحُ الباب، يدفعه أبو خالد بيده نحو الداخل، يدخلُ بسرعة ويغلقُ الباب خلفه، يمسكني من كتفي بيده التي تشبه جذع شجرة عفا عنها الزمان:
«أني وحيد يا ابني، والوحدة چتلتني، وويلادي هجروني، لا تتركني وحدي، دخيلك».