الخالة ثلجة: البدوية التي حدثتني عن العقم النفسي وعن موت ابراهيم!

تم نشر القصة على موقع درج هنا

بعد مقتل ابني إبراهيم بتّ أتعثر حتى بالهواء، تهت عن خيمتنا أثناء رعي ما تبقى من الحلال، بت أمشي باتجاه والحلال باتجاه آخر، تهت والحلال (الغنم) هو من دلني إلى طريق العودة نحو الخيم.

عام 2018، فقدت امرأة سورية بدوية ولدها الوحيد أثناء تمشيط الفصائل الممولة من إيران ريف محافظة الرقة الشرقي، بادية مدينة معدان. 

ما زالت هي وزوجها وأقاربها من البدو يعملون في رعي الغنم وبيع الحليب والسمن العربي.

هنا حكايتها التي تعكس بعضاً من سيرتها الذاتية وصوراً من حياة البدو والترحال بين مناطق سيطرة النظام السوري ومناطق سيطرة تنظيم الدولة. 

كانت جدتي تحدثني عن العكة وعن الجبن، كانت تتوتر من ضجيج الأسواق.

الكثير من صفاتها البدوية لم أكن أجد تفسيراً له، لذلك كانت رحلتي إلى خيم البدو في قرى مدينة جرابلس شرق مدينة حلب للبحث عن بعض الأجوبة عن حياة البدو، تعرفت بجولتي على امرأة خمسينية، سألتني على الفور: هل تعرف العقم النفسي!؟
لم أفهم سؤالها بالضبط لكنني عرفت أنها تريد التحدث، وكنت أودّ أن أسمع. 
لم أقلق لعدم وجود رجل في الخيمة كون ما أعرفه عن حياة البدو أن للضيف مقامه، يوبخ الزوج زوجته إن لم تكرم الضيف، بخلاف بعض المجتمعات التي أزورها، حيث تتحاشى الأنثى استقبالك في حال لم يكن رجل ما في المنزل أو الخيمة.
سألتني الخالة ثلجة عن عمري وأجبت. بحساب رياضي في رأسها تبين لها أنني أكبر من ابراهيم، ابنها.
القصة، أنني لا أعرف بالضبط في أي عام ولدت ولا بأي محافظة بالضبط، هذا السؤال أعاق إجابتي للمجلس المحلي أثناء الحصول على بطاقة شخصية خاصة بي، أتذكر أنني فتحت عينيّ وكنا بقرب مزار ديني له قبة خضراء تنبعث منه رائحة قوية، أين هذا المكان لم أعد أذكر. 

رحلنا إلى مكان آخر وحط بنا الرحال في أرض أخرى، فنحن نقيم حيث يرتاح الغنم (الحلال) ويرعى، أما الأسماء التي نطلقها على بعضنا أو على أطفالنا، بحسب المكان والجو، فصخر أو حجر لطفل ولد بمكان يحيطه الصخر أو الحجر، ثلج/ ثلجة، في حال ولدوا في والثلج فوق رؤوسنا، كما اسمي. مطر/ مطرة، في حال ولد الطفل في جو ماطر.

اسم ابني ابراهيم، نسمي أيضاً تيمناً بالضيف فمثلاً نسمي الطفل الذي ولد في حال زرتنا في يوم الولادة على اسمك، وهذا ما ندرته لتسمية ابني، فكان قد زارنا ممرض بيطري يقود سيارة بالكاد تمشي، رمادية اللون، يحمل بيده حقيبة جلدية رمادية أيضاً، يدور على الحلال (الدواب) ويلقحها ويأخذ نصيبه من المال، سألته أثناء استراحته: دكتور أنت دكتور دواب… كيف تستعجل الأنثى بحملها إذا ما تأخر؟ 

رد علي: “الله يجبر بخاطرك… أنا ممرض ولكنني مختص بالدواب وليس بالإنسان”. 

“كلنا ندب على الأرض يا دكتور”، قلت له. 

 
أجابني فيما يعدّل جلسته: إذا توفرت الشروط الدنيوية وعملية اللقاح بين الذكر والأنثى لم تؤتِ أكلها… فالحب وراحة البال هما سبب بالحمل.

خرج من خيمتنا وظل جوابه في رأسي… ما هو الحب؟ 

سألت إحدى الحبابات (إمرأة مسنة يكون لها باع في الحياة) التي كانت قد تزوجت خمس رجال ولم يعجبها أحد لأن العصمة بيدها، سألتها عن الحب لترد: الحب هو ألا تملي من رجلك وإذا ما خرج تنتظرينه ليعود وترين فيه كل رجال العالم.  

إن كان هذا الحب فإنني أرى أبا ابراهيم كل رجال العالم، لكن راحة البال كانت عائقاً آخر. تزوجت منه منذ عشر سنوات ولم أنجب بعد، كلام نساء الديرة يسبب لي قلقاً آخر، عمتي (حماتي) التي هي أخت أمي كانت الوحيدة التي تصبرني، أريد ذرية حتى يرفع زوجي اسمه بين الرجال، هو يقول لي: الذي يأتي من الله جميل. 
لكنني أجده يشرد بأطفال أخوته وأطفال الديرة، عيناه تتعقبانهم ريثما يختفون خلف الخيام.



النساء يبالغن في تصبيري على الإنجاب. ذات يوم وأمام كل النساء، كنت أجلس بالقرب من عمتي، لتقوم بمسكي من فرجي وتضغط عليه بقوة وتقول: لزقناه ولا نريد خلفه منها الله خلقها وما يريد يخلق حدا يشبهها.

سكتت الحاضرات وأقفل موضوع الإنجاب منذ ذاك اليوم، بهذا تحقق شرط راحة البال. وما حدث أنني أنجبت طفلاً وسميته ابراهيم على اسم دكتور الدواب.
منذ مدة نزلت إلى المستشفى في مدينة الغندورة بغية العلاج، شاهدت نساء يلدن في ممر الولادة الخاص بالمستشفى، يصرخن بقوة ويبكين، عندنا (البدو) لا نواجه هذا الألم كله أثناء الولادة، لن اتحدث عن نفسي، فألمي كان راحة بال، لكن أحدثك عن نساء كن يذهبن للرعي وهن حوامل، يعدن عصراً وبيدهن كركور (طفل صغير كناية عن مولود الغنمة) صغير بيدهن وفي اليوم التالي يذهبن إلى الرعي، أخريات يأتي مخاضهن أثناء الترحال من ديرة إلى أخرى، يسترن أنفسهن ويبقى رجل معهن ويسير العرب وتبقى المرأة تنجب وتأخذ من دابة ذات ظهر متين هودجاً لها وتلحق بالعرب بعد الولادة حتى تصلهم. 



إبراهيم في خيمتنا



عندما كنت أقول إن زوجي يهمه إنجاب الولد، كان يؤكد لي أنه لا يهم والذي يأتي من الله خير! لكن دخول ابراهيم إلى حياتنا أثبت حدسي وكذب قوله، فبات لا يرى من الأطفال إلا ابراهيم، تراه إذا ما عاد من الخيمة الكبيرة، وعندما يقترب من خيمتنا، خطواته تسبقه حتى يدخل ويضمه، ترك الدخان لأجل ابراهيم، تحول إلى حصان يمتطيه ابراهيم ولا يهمه إذا شاهده أحد أو لا. 
عاد طفلاً صغيراً بعمر ابراهيم بعدما كان على أبواب الخمسين، يضحك كالأطفال ويطلب مني أن أرضع إبراهيم ليل نهار حتى يكبر بسرعة ويزوجه ويشاهد أطفاله قبل أن يموت.
كان يقول لي أثناء نوم ابراهيم: في حال مت قبل أن يصبح شاباً، ادفنوني على قمة تلة لا ينساها وفي حال مررتم من مكان قبري مرة أخرى، ادعوا لي واخبري ابراهيم عني وعن انتظاري له لسنوات.

زوجي تحول محط سخرية وقيل عنه “حرمة بيت”، كونه لا يخرج إلا نادراً وللضرورة من خيمتنا، وعندما بلغ ابراهيم الرابعة، كان يختبئ داخل فروة والده (عباءة مصنوعة من الصوف يرتديها البدو في الشتاء) لئلا أراه وأمنعه مع الذهاب مع والده.

حرب في مكان آخر

تمر الأيام علينا، كون حياتنا “عِدي” (لا يعتمد البدو على الأسواق وحياة المدينة إلا بالنادر وكل مستلزمات حياتهم موجودة لديهم) لم نشعر بأي تغير في البلاد، وإن كان البلد يمر بخراب وحرب والله لم نكن نعرف، ابراهيم بات في العاشرة من عمره عندما مرت سيارة لرجال يحملون السلاح ظننتهم بداية يسألون زوجي عن مكان يخيمون به لأجل “الكنص” (مواسم صيد الطيور الحرة)، لكن زوجي قال لي إن البلاد “خربانة” وعلينا الرحيل لأننا نخيم بالقرب من مطار ربما يقوم هؤلاء الرجال بحصاره، هو مطار الشعيرات في ريف حمص. 

أخذنا طريق السَلَمية لنصل إلى مدينة السخنة ومن ثم مدينة معدان، لعلنا ننزل في أرض نعيش فيها بعيداً من كل المشكلات التي ربما تحدث معنا. ابراهيم كان يقود السيارة بحضن والده ويسأله عن أسماء القرى التي نمر منها ويطيل النظر بالأماكن التي يشاهدها ولا يزيل نظره عنها حتى تبعد منه، يتلفت إلى مرآة السيارة الخارجية لعله يظل يشاهد هذه الأماكن، كنت أشاهد رأسه يطل من نافذة السيارة وأنا أجلس في صندوق السيارة الخلفي، يريد الصعود في صندوق السيارة معي، أجلسه بحضني ويسألني الأسئلة ذاتها التي يسألها لوالده.
قبل وصولنا إلى سهل بالقرب من مدينة معدان، اوقفتنا سيارة فيها رجال لحالهم طويلة، منعونا من النزول في هذه الأرض وقالوا لنا أن نأتي في يوم آخر فنحن في حرب مع الكفار وربما لن تنتهي وهذه أرض تقع بالوسط بيننا وبينهم. كان اسمهم الدولة الإسلامية، عدنا باتجاه السخنة، أيضاً اوقفتنا سيارة أخرى، السلاح ذاته والسيارات ذاتها، ولكن لم تكن لهم لحى، أعادوا علينا الكلام ذاته، ولكن هؤلاء يقاتلون الإرهابيين لا الكفار، هؤلاء كانوا الدولة العادية (الجيش النظامي).
في النهاية نزلنا في أرض قريبة من قرية الزملة، بقينا أشهراً، ثم رحلنا باتجاه معدان كون لزوجي أقارب هناك.
كان حديث العرب (كل من الرجال والنساء في المجموعة الواحدة للبدو يسمون أنفسهم العرب)، يدور حول أن البلاد لم تعد كما كانت وباتوا يستذكرون كيف حدوكانت د دول لا تقف أمامهم، فلهم أقارب في العراق والأردن والسعودية وتركيا وكانوا يرحلون بحلالهم (غنمهم) أينما وجدوا المرعى المناسب لهم ولا حدود تقف بوجههم، الله يسترها على عباده، يختم كل منهم كلامهم.  

حدثت معنا قصص كثيرة. في أي حال، الدولة العادية لم تعد في المنطقة التي نسكنها وبقيت تلك الإسلامية، طلبوا منا تعلم الوضوء والصلاة ودفع الزكاة على كل رأس غنم، أعطيناهم ما يريدون ولكنني لم أستطع المشي بالبرقع (السدال/ الخمار/ الزي الذي فرضه تنظيم الدولة على كل إمرأة تسكن في مناطق سيطرته) تعثرت على درج المستوصف في معدان ورفعت الخمار لمنتصف وجهي… لم نكن نأخذ إبراهيم معنا على معدان خوفاً من العين. 


خرجت في ما بعد الدولة الإسلامية من معدان ودخلت الدولة العادية.  



غربت الشمس وماتت روحي



عندما دخلت الدولة العادية إلى معدان لم يطلبوا منا شيئاً، ولم يقتربوا منا ولم يمسونا بسوء، لكن ذات ليلة سمعنا صوت سقوط مروحية في البادية المحيطة بنا، خفنا في البداية ولكن أشرقت الشمس وكأن شيئاً لم يكن… زودت إبراهيم وابن سلفتي، مصطفى بالطعام، ساقا الغنم إلى المراعي. حل الغروب وأحسست قلبي خرج من مكانه. 
(مسحت الخالة دموعها التي بدأت تنهمر من دون صوت وأخذت تهز برأسها وكأنها تستجمع قواها لتستكمل ما حدث معها).
يا قلب خالتك، سمعت صوت صدى الرصاص وكأنه يأتي من كل مكان نحوي، الشمس بدأت تغيب عني، انتظر عودة إبراهيم وأخشى أنه خاف من صوت صدى الرصاص.
غابت ثلاثة أرباع الشمس وبقي الربع وأنا أنظر نحو الجهة التي سلكها ابني وابن عمه، لكنني شاهدت الحلال يعود لوحده، لم أرَ إبراهيم ولا مصطفى. 
الحلال ثلاثة أرباعه لم يعد ولم يعد ابراهيم ولا مصطفى، قلقنا كثيراً وانعقد لساني، ذهب الرجال للبحث عنهما وبأيديهم كل ما نملك من مصابيح.

في منتصف الليل عاد مصطفى يركض والآخر أيضاً معقود لسانه من الخوف، التف حوله كل من كان من العرب في الخيم، نطق أخيراً: ابراهيم … قتل أبو القبعة الملونة إبراهيم، ضربوا الرصاص على كل الحلال، اختبأت تحت المرياع، لم يقتلوني، انتظرت حتى ذهبوا وأخذوا بضع غنمات يسيل دمها على الأرض وذهبوا.  
أرض البدو واسعة ولا يحدها مع السماء حاجز، إلا أنني شعرت وكأن السماء أطبقت على قلبي وكأنني في قبر أسود.
بعد مقتل ابني إبراهيم بتّ أتعثر حتى بالهواء، تهت عن خيمتنا أثناء رعي ما تبقى من الحلال، بت أمشي باتجاه والحلال باتجاه آخر، تهت والحلال (الغنم) هو من دلني إلى طريق العودة نحو الخيم.

يقال عنا نحن البدو إننا قليلو الكلام، فوق كل قلة كلامنا بتنا كالخرسان في الخيم، إن لم تكن للكلمة أهمية لا نلفظها. 

في النهاية، طلب رجال الدولة الإسلامية في البادية من زوجي أن يعمل لمصلحة رجال الدولة العادية الذين قتلوا ولدي، لكن قررنا الرحيل وأتينا إلى هنا (إلى قرى مدينة جرابلس). 

– بحثت في ماهية المروحية التي سقطت في البادية الممتدة بين محافظة الرقة ودير الزور وحمص، وعن المجازر التي ارتكبتها الفصائل الممولة من إيران في البادية السورية، ليقول لي كثر من سكان مدينة معدان إن المروحية التي سقطت كانت تحمل ذهباً، كانت جمعته الفصائل الإيرانية من أحد مقرات تنظيم الدولة وكون كميات الذهب كانت كثيرة، لم تستطع المروحية حمله، ما أدى إلى سقوطها في مثلث الرعب في البادية.

أما عن قتل رعاة الغنم بين الحين والآخر، فقيل لي بعد التحقق من أشخاص يقطنون مدينة معدان ومن آخرين يتبعون للفصائل الإيرانية، إن قتل الرعاة يشارك به الإيرانيون وتنظيم الدولة، فالطرفان يظنان أن الراعي هذا مبعوث من الجهة الأخرى، أو أنه خلية تتقمص شخصية الراعي لتجد هذا الذهب وتأخذه، ونتيجة الجشع وتحصن خلايا تنظيم الدولة، في البادية ومحاصرة الفصائل الممولة من إيران، كان إبراهيم ابن الخالة ثلجة الضحية وغيره كثيرون. 

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *