تم نشر القصة على موقع درج هنا
قد تسألني، لماذا لم تتركي التنظيم بعد خروجك من مناطقه لتعيشي حياتك، هو سؤال يراود جل نساء التنظيم وأرامله، ولكن دعني أجيبك دونما ندم أو حسرة…
منذ الاعلان عن القضاء على تنظيم الدولة أو “داعش”، تم تخصيص مخيم الهول في شمال شرق سوريا والواقع تحت سيطرة الادارة الذاتية الكردية لاحتجاز عوائل التنظيم. قصص كثيرة تم نقلها عن حياة مقاتلي داعش وعن نسائه اللواتي عشن حياة مكللة بالصمت والقسوة والعنف.
هنا حكاية واحدة من نساء التنظيم،فبعد خروج عدد من عائلات مقاتلي التنظيم مطلع عام 2020 ، عقب وساطة عشائرية، خرجت فاطمة أو أم عيسى وهي زوجة أحد مقاتلي “داعش”، ضمن دفعات النساء اللواتي خرجن من المخيم. بقيت عند أهل زوجها في بلدة المنصورة في ريف الرقة الغربي لأشهر ومن ثم دخلت مناطق المعارضة في ريف حلب حيث يعيش والدها وأمها. هناك اعتقلتها قوات المعارضة. لم يُسمح لأهلها بزيارتها بعد الحكم عليها بدفع كفالة مالية.
لم يستطع ذووها دفع المبلغ لضيق الحال، وبحكم صلة القرابة بيني وبينهم، استطعنا تأمين زيارة في مركز الاعتقال. فاطمة الملقبة بأم عيسى مصابة بقدمها اليمنى، وقد ساعدتها إحدى السجينات، وهذه الأخيرة هي صاحبة السطور التالية، طلبت مني، حين عرفت أنني أعمل في الصحافة، أن أنشر قصتها أو كما سمتها، وصيتها للعالم أو لمن يهمه الأمر بحسب قولها.
تختلط عناصر القصة وتتداخل، فتارة تظهر فاطمة ضحية وتارة أخرى جانية وجلادة. في زيارات متتالية لأم عيسى مع أهلها، كنت أسمع من السجينة الأخرى، دقائق من قصتها التي أخذت ترويها بكلمات تتفوه بها بسرعة البرق، جمعت كلامها أو وصيتها في هذه القصة، محاولاً قدر المستطاع اختزالها:
الحب لا يأتي بسهولة…
“لأحدثك بدايةً عن قصة زواجي، فكل الأمور التي حدثت معي وتحدث، نقطة بدايتها، قصة زواجي.
أتى موسم الزيت، سمعت صوت هدير سيارته، هرعت إلى سطوح بيتنا، بيدي سلة غسيل فارغة، لم يكن موجوداً، حمل إخوته وإخوتي تنكات زيت الزيتون إلى صندوق السيارة ومضوا، بعد أسبوع طرق باب منزلنا هو ورجل كبير لا أعرفه، دخلا وأبي إلى غرفة الضيوف. خرج لا يتلفت خلفه، من دون أن يخبرني بوجود ورقة في تنك الزرع، كما في الزيارات السابقة، لكنني بحثت بين التنك، وجدت ورقة كتب فيها: “توقعت وجود رفض من أهلك، لأنني لست كردياً… إن كنت تحبينني، انتظريني بين بساتين الرمان على حافة طريق قريتكم، غداً، قبيل شروق الشمس”.
وضعت الورقة في صدري على الفور، خوفاً من أهلي. أسرت لصديقتي مضمون الرسالة وأخبرتها عن قلقي من رفض أهلي. قالت لي: “الحب لا يأتي بسهولة، وإن أتى لا تتخلي عنه… لو كنت مكانك لذهبت معه”.
في اليوم التالي، تسللت بين زيتون القرية، حتى وصلت إلى أشجار الرمان التي تطوّق طريق قريتنا بجانبيه، سيارة كبيرة تسير ببطء بين شجر الرمان، نزلت إلى الطريق، فُتح الباب، زاح باتجاه السائق ووضع كيس ملابسي بيني وبينه وطلب مني أن أغلق باب السيارة بقوة.
تزوجنا بحضور خاله، كوكيل لي ومؤيد لزواجنا، سكنا في منزل تعود ملكيته لضابط في الجيش لا يأتي إلى منزله في مدينة دارة عزة.
بعد زواجنا، اندلعت حرب شبه صامتة بينه وبين أهله، فبقينا نعيش بعيداً من الناس وحتى بعيداً من أهله حتى اندلعت الثورة عام 2011.
لم أعلم، ما يحصل تحديداً في البلد، زوجي كان يتحاشى إطالة الحديث معي، وإذا ما تكررت مقاطع على شاشة التلفزيون، كان يغلقه ويجلس بالقرب مني، ونشرد في السقف. يحدثني عن سجون سوريا، وعن معتقلين منذ عام 1980، لا أحد يعرف مصيرهم، ويقول إن من حقهم علينا أن نساعدهم للخروج من السجن، “تخيلي رجلاً محبوساً في بئر هذا المنزل، وصاحب المنزل اشترط علينا، أن نفعل ما نشاء مقابل ألا نهتم لصوت الرجل داخل البئر، هل نقبل؟” يسألني. أقول له: “بالطبع لا!”. يجيب بنبرة حاسمة: “إذاً هذه هي الثورة”. ليت الثورة لم تنطلق، تغير زوجي، رفض نصائح خاله الذي كان يجالسه يومياً، ويتحدّثان عن أحقية الثورة ومطالبها، إنما هذا النظام، يقول الخال، لا أحد يستطيع هزيمته.
كنت أدعو له طيلة اليوم، حتى يعود من المقر العسكري الذي التحق به، كإداري ينظم سجلات وأسماء مقاتلي الفصيل الذي يعمل معه، وعندما يعود، ننام فيما يحدثني عما حدث معه في يومه.
قتل قناص تابع للجيش الحر خالنا، في مكان كان منطقة اشتباك بين الدولة الإسلامية والجيش الحر، تأثر زوجي بذلك، وانضم إلى الدولة الإسلامية، قال لي وهو يحمل ملابسنا، ويخبئ أساور الذهب، إنه لو كان يملك 10 طلقات لوجّه تسعة إلى الجيش الحر، والعاشرة للنصر ولا داعي لضرب بشار الأسد بها، لأنهم – أي الجيش الحر – سبب إطالة وجوده بالحكم.
إلى الرقّة
لم يكن الوقت كافياً لنجمع أغراضاً أكثر، خرجنا (عائلات مقاتلي الدولة الإسلامية) في سيارات إلى مدينة الرقة، بقينا ساعات على الطريق، كانت منقّبات كثيرات في صناديق السيارات مع أطفالهن. أثناء دخولي الحمام مع واحدة من النسوة، في إحدى الاستراحات على الطريق، عرفت أنني حامل، لم أعرف هوية المولود، لكن فرحت وزوجي واستبشرنا خيراً بهجرتنا إلى الرقة.
في منتصف عام 2015، مات زوجي بغارة للطيران الأميركي، هذا شرف له، بعدما عشنا حياة نحسد عليها في حي الثكنة في الرقة، في منزل تعود ملكيته إلى رجل نُصيري. كان زوجي قبل رحيله يطلب مني تثبيت ابنتنا على ظهره ويحبو بها كالحصان في شرفة المنزل العريضة.
الغارة قتلت زوجي أثناء عمله كإداري يرتب أوراق مقاتلي الدولة وسجلاتهم.
كان لوجوده قربي حنان الأخ والأب والزوج، لم أشعر بغياب أهلي أثناء وجودي معه، لم أكن أفكر بشيء ولا يهمني شيء، ولا يقلقني شيء ولا يزعجني شيء. لكنّ “استشهاده” أثّر في حياتي. تحولت فجأة إلى عجوز أو إلى طفلة، وتدمّرت حياتي.
تزوجت – مضطرة – بعد الخروج من العدة الشرعية، من مقاتل فرنسي من أصل جزائري اسمه إدريس، انتقلنا للعيش في مدينة هجين بحسب فرزه. كلما أكون بين يديه، أتذكر صوراً من قريتنا، أحاول عد أشجار الزيتون فيها، ريثما ينهي لذته.
ما أن يفرغ من ممارسة الجنس معي، حتى أتحجج بتسخين الماء، لكي نستحم خوفاً من غارة تقتلنا على غير طهارة. كنت أفعل ذلك حتى يتركني وشأني. كانت نساء المضافة حيث كنا نجتمع، يخشين صوت طائرات الاستطلاع، أما أنا فتمنيت دائماً وصولها عندما يكون إدريس في المنزل. كنت أخاف منه أكثر من أي شيء، وأخشى أن يقتلني ويغزر سكينه في قلبي كل لحظة. للموت أشكال، منها أنني تزوجت من رجل لا أحبه.
ابنتي كانت كل ما تبقى لي من عالمي القديم، أذهب وأنام بقربها في الغرفة الثانية وأضمها بحب.
“كم سيلعننا الأطفال!”
هناك نسوة أرامل في المضافة، كن يكرهن أولادهن، لأنهم يذكرونهن بأزواجهن الموتى، أخريات تمنين لو لم ينجبن، حتى يعشن حياتهن بالتقلب بين الرجال من جنسيات مختلفة، أخريات يكرهن أطفالهن، لأن مصيرهم معروف، لذة جنسية، يعقبها إنجاب طفل، لأبوين إرهابيين. “كم سيلعننا هؤلاء الأطفال إذا كبروا”، كانت أم مسلم الديرية تردد هذه العبارة، إثر كل غارة وإثر كل خبر يصل إلينا عن سقوط منطقة من الدولة.
أما أنا فرفضت أن يحمل رحمي نطفة من إدريس.
ضاق صدري من المضافات النسائية، والدروس الدينية، ليس كرهاً بالتعاليم الدينية – لا والله – فتلاوة المصحف تريح قلبي، لكن بسبب نعتي بالغريبة بين النسوة في هوامش الدروس الدينية، فمنهن وإن كنا لا يردن الإنجاب، إلا إنهن يشعرن بالوحشة، إذا ما طالت فترة غياب زوج إحداهن، بخلافي، إذ كنت أتمنى أن يطول أمد المعارك، ولا تخسر الدولة شبراً حتى يبقى إدريس في الرباط.
لربما تسألني، هل ممنوع الطلاق، لتتزوجي من غير إدريس؟
لم يكن الخلع ممنوعاً، ولكن يُمنع أن تبقى الأنثى من دون رجل، أكره العودة إلى السكن في المضافة، كما لا جَلد لي على التقلب بين الرجال، واختيار أميرة المضافة زوجاً ترتضيه لي، الرجال متشابهون، عدا زوجي القديم. مرت أيام رتيبة، الأشياء على حالها، والنساء في المضافة على حالهن – وإن تغيرن – بحسب فرز أزواجهن، إلا أن أحاديثهن نفسها، والخلافات نفسها والجدالات نفسها. ما أشعرني بمرور الزمن، هو أن طفلتي تكبر ويطول شعرها.
مات إدريس
مات إدريس، بغارة طيران تابع للتحالف الدولي، أشعر بالأسف لأنني لم أحزن كما هو متوقع من أي زوجة، بل التزمت الصمت.
زاد القصف، النسوة تبعثرن، قُتل أزواج كثر، بغارات التحالف. رأيت إحداهن أسرت لي يوماً كرهها لزوجها، إلا أنها بكته بعد مقتله، لوحدة ثقلت قلبها. إحدى النساء وهي سوريَّة من مدينة حلب، تزوجها شقيق زوجها، قيل لنا بعد أشهر تخللها قصف وهدوء وقصف وهدوء على مدينة هَجين، إنها الآن في تونس، في بيت أهل زوجها مع طفلها التونسي، وطفلها الآخر من زوجها السابق، قيل لنا داخل المضافة، إنها بقيت شهراً في سيارة خاصة لم تنزل منها إلا لقضاء الحاجة، حتى وصلت إلى تونس.
أذكر لك هذا الخبر، لما رسم ضحكة استهزاء بين نساء المضافة، عن أملهن بالسفر إلى بلدان أزواجهن الأوروبية والخليجية، يُسر حال وراحة بال، ودلال يطرأ عليهن بعد مقتل أزواجهن، فهن يبقين من رائحة الابن.
لربما تسألني أيضاً، هل الحياة نساء مقاتلي التنظيم كما تصورها محطات إعلامية ومسلسلات الدراميّة، دعني أخبرك بشكل عام:
لم تكن حياتنا عن الزواج والخلع والسفر وحسب، إذ كانت النساء إذا ما تتطلب الأمر، يشاركن في المعارك ويَقتُلن ويُقتَلن. إحدى غارات التحالف سقطت بالقرب مني، دبت الرجفة في قلبي. نظرت إلى ابنتي، تراءت لي مقتولة، أو مبتورة أحد الأطراف وشعرها متسخ.
عزمت على الخروج من مناطق الدولة، تذكرت أنني كردية، ما زالت مفردات اللغة الكردية مردومة تحت لساني، لم أكن الوحيدة التي فكرت بالخروج من نساء المضافة. استطعت الخروج بعد تدبير أمري بملابس مختلفة، تأكدت من اسم عفرين على هويتي مرات عدة، حملت ابنتي وانطلقت.
كان المهربون من كلا الطرفين يعرفون أن لدينا شيئاً من المال ليتقاسموه، هم الأعداء في جبهات أخرى، وأصدقاء في جبهات التهريب، لم أدفع لهم تسعيرة “داعشي” بل تسعيرة مدني كان يعمل في هَجين بالأراضي الزراعية، وهذه هويتي مكتوب عليها عفرين.
ما أقنع المهرب من طرف “قسد” بتصديقي، هو أنني انهلت عليه بكلمات باللغة الكردية عن أغنية كنا نرددها حين كنا صغاراً، أظنه خاف وظن أنني من قبل استخبارات “قسد” جئت للإيقاع به، لينتهي بي المطاف في مدينة رأس العين.
قصدت مدينة الرقة، حيث المنزل الذي سكنت فيه مع زوجي، إلا أني لم أستطع تمييز الرقة بسبب كثافة الدمار، كانت المسافات التي كنت أسيرها، تطول وتقصر، فالقصف فتح حارات، وأغلق أخرى”.
تؤكد لي بين كل حدث وحدث تخبرني به وبداية كل زيارة ونهايتها، ستنشر كل ما أقوله لك بالضبط؟
وتكمل حديثها:
“بعد شهر من إقامتي في الرقة، عدت لأكون مقاتلة تابعة للدولة من طريق أحد مقاتلي “قسد” الذي يعمل لحساب الدولة سراً، وكان صديقاً لزوجي الأول، أقنعني بعدما رَغّبَني بأن هذه المدينة التي لم يعد يطبق حكم الشريعة فيها، والفحش في الشوارع والحدائق، والمساجد باتت مهجورة، ختم قائلاً: “الليل لنا (أي لجنود الخلافة) والنهار لقسد، زوجك بانتظارك في الجنة”.
قمت بتنفيذ التعليمات الموكلة لي، حول رصد أعداد مقاتلي “قسد” واسمائهم وتصوير مقراتهم من بُعد، أقمت في بلدة الحزيمة، التي كانت قطاعي الخاص ضمن الخلية. إلا أن صديق زوجي بعد مدة طلب مني أن أخرج مع ابنتي إلى ريف حلب- منطقة أعزاز- بعدما لقطت كاميرا لقسد صورة لي أثناء تصوير مقر لها وأنا الآن مطلوبة.
عبر مقاتل “قسد”، تواصل معي مقاتل من الجيش الوطني في أعزاز وأمن لي مكاناً للإقامة في قرية “نيارة” القريبة من أعزاز، كانت المهمات الموكلة لي قليلة، تصوير محلات لتجار لتهديدهم إذا ما دفعوا أموال الزكاة للدولة.
مهمتي التصوير، ومهمة غيري، وضع التفجير، وآخر يضغط الزر وآخر يتأكد من أسماء الضحايا لمعرفة النتيجة. لم أعرف أحداً من الخلية ولم يعرفني أحد إلا مقاتل الجيش الوطني، ومقاتل “قسد” صديق زوجي.
عفرين على هويتي
بعد سلسلة تفجيرات في ريف حلب، طُلب مني الانتقال للسكن في منطقة إدلب، مررت من عفرين بعد 13 سنة من الهروب منها، خفت أن يعرفني أحد هناك، إلا أنني لم أعرف وجه أحد. خشيت أن أشير بيدي إلى ابنتي نحو قرية أمها خوفاً من أن يقتلها أجدادها.
في الرقة، حين يشاهد جنود الحاجز اسم عفرين على هويتي يسمحون لي بالمرور بلا تفتيش، أما في عفرين فيحدث العكس، يتم تفتيش كل قطعة ملابس. أقمت في قرية اسمها “حزرة” قرب مدينة الدانا، أنتظر الأوامر، تعامل معي عنصر الخلية في إدلب بكل احترام.
بعدما أخذت ابنتي تتحدث مع أطفال الجيران، عَلمت ابنتي الكذب، فتقول إن والدها مات بقصف للطيران الروسي لأن في القرية الكثير من المُهَجَّرين بسبب القصف الروسي. تلقيت الأمر في المهمة الأولى بعد شهر من إقامتي في “حزرة”، لأضع حقيبة متفجرات بالقرب من حائط مبنى حكومي، فيه قاض يحكم على مقاتلي الدولة بأحكام قاسية.
تم تفجير المبنى، علمت في ما بعد أن القاضي وكثر قد ماتوا، تم شكري والمبالغة في الثناء عليَّ من قبل أمير الخلية، برسالة عبر تطبيق “تلغرام”، صرفوا لي مبلغاً وقدره 100 دولار أميركي، اشتريت فيه ألعاباً لابنتي من داخل “مول” أحمر اللون في مدينة الدانا، تذكرت مقولة لإحدى نسوة المضافة: “لكي نعيش السعادة يجب أن يبكي غيرنا”.
قد تسألني، لما لم تتركي التنظيم بعد خروجك من مناطقه لتعيشي حياتك، هو سؤال يراود جل نساء التنظيم وأرامله، ولكن دعني أجيبك دونما ندم أو حسرة:
غير المنحة المالية المخصصة لي، كان يتم تقديم سلة إغاثية شهرياً، البقاء في العمل داخل خلية كان يحصّنني من الاستغلال الذي كانت تتعرض له نساء مقاتلي الدولة جنسياً، وأحياناً كان يتم تهديدهن بالسجن.
كنا نعمل ضمن الخلية وكأن القيامة غداً، نفجر مواقع عدة في فترة زمنية قصيرة، ونتوقف عن العمل حتى يتم نسياننا. بعد ثلاثة أشهر من تفجير القاضي ومقتله، طُلب مني أن أنقل حقيبة أخرى، لأضعها بالقرب من مقر عسكري في مدينة عفرين، طلبوا مني أن أجعل ابنتي ترتدي الحقيبة تحاشياً للشك، إلا أنني لا أعلم لماذا رفضت وتركت ابنتي نائمة ريثما أعود، ليتني أخذتها معي…
خشيت عليها من تعب الطريق، ومن الاعتقال في حال إلقاء القبض عليَّ وهذا ما حدث. سيارة مغلقة نزل منها ملثمون، وجهوا السلاح بوجهي وطلبوا مني الابتعاد من الحقيبة، عَصبوا عينيّ ووضعوني في صندوق السيارة، ثم رموني في السجن.
ظنت السجينات أن تهمتي أنني “مومس”، كوني لم أكن أصلي بسبب الدورة الشهرية التي أتت إثر الصدمة، تحاشت النساء الحديث معي، أما أنا فكان كل همي، مصير ابنتي وإن استيقظت من النوم أم لا، كم هذا سؤال غبي! من ينام لأيام؟
حين عرفت السجينات أنه تم إلقاء القبض عليَّ كخلية تابعة للدولة، وبعدما اعترفت فلا داعي للإنكار، بتن يقتربن مني، فمعظمهن من نساء مقاتلي الدولة. صرن يخبرنني عن قصص حاكها خيالهن عن إقامة جغرافيا أخرى للدولة، ليخرجن بعملية تبادل أسرى جماعية، المهجع تحول إلى مضافة نسائية أخرى، الأحاديث ذاتها والسِجالات ذاتها. أما أنا فكان كل همي مصير ابنتي، وهذا ما كررته للمحققة. أخبرتني أنهم سيأتون بها إليّ إذا ما رفض أهلي أو أهل والدها تربيتها، إلا أنهم لم يجدوها في المنزل بعدما فتشوه رأساً على عقب.
لربما لن تأتي تلك الأيام، الذي أروي فيها لأخريات عن الصبر داخل السجون، كما كانت تخبرنا المهاجرات عن اعتقالهن في بلدانهن قبل الهجرة إلى أرض الخلافة، فقد تلقيت حكم الإعدام بسبب تفجير المبنى الذي راح ضحيته ذاك القاضي.
كل الذي أستجديه من العالم، من طريقك وطريق أهل الدين، أن يجدوا ابنتي ويعتنوا بها، ليتني أشرت لها إلى قرية أمها، لعلها إذا تاهت تعود إلى عفرين ويربيها أهلي وتتزوج شخصاً تريده، وتنمو لديها موهبة الخط، ولا تكون ضحية استغلال جنسي أو متسولة كغيرها من أبناء جيل الدولة الضائع.
ما سبق قصة تم نقلها عن لسان صاحبتها، التي حكم عليها بالإعدام كما ذكرت في القصة، وهي لا تزال حتى تاريخ كتابة هذه السطور تنتظر تنفيذ الحكم، ولا تزال طفلتها ذو الست سنوات مفقودة.